قال المؤلف رحمه الله (فصلٌ)
الشرح أن هذا فصل معقود لبيان أحكام تجهيز الميت.
(غَسلُ الميّتِ وتكفينُهُ والصلاةُ عليهِ ودفنُهُ فرضُ كفايةٍ إذا كانَ مسلمًا وُلِدَ حيًّا، ووَجَبَ لذميٍّ تكفينٌ ودفنٌ)
الشرح تجهيز الميت المسلمِ من فروض الكفاية فإذا مات ميّتٌ مسلمٌ ثم أُهمل تجهيزه فلم يجهَّز فظلَّ على الأرض حتى انتفخ وأنتنت رائحته أثِم كلُّ من علم بحاله فلم يفعل من غير عذرٍ من رجال أو نساء، هذا الحكم شاملٌ للجميع، أَمَّا غير المسلم فلا يجب له ذلك فمن علم بموت الكافر فلم يفعل شيئًا مما ذكر لم يكن عليه إثمٌ إلا أنَّ الكافر الذميَّ يجب تكفينه ودفنه فقط فلا تجوز الصلاةُ عليه
ولا يجب غسله، ولو غسل لم يكن فيه إثمٌ. والكافر الذميُّ هو من كان له عهدٌ مع سلطان المسلمين لكونه التزم دفع الجزية كل سنةٍ مرةً واحدة فهذا الكافر الذميُّ إذا مات له حقُّ التكفين والدفن لكنه لا يدفن في مقابِرِ الْمُسلمينَ فإن لم يكن ترك مالاً يكفَّن به ويجهّز به للدفن كان ذلك حقًّا أن يؤخذ من بيت مال المسلمين،
أَمَّا المرتدُّ فليس له شىء من ذلك ولو كان أبوهُ وأمُّه مُسْلِمَيْنِ فلا يستحق إذا مات على قريبه المسلم أن يدفنه ولا أن يُكفِّنه، ولو تركه للكلاب أو للوحوش والسباع لم يكن عليه ذنبٌ لكنه يُسنُّ أن يُفْعَلَ به ما يكفي الناسَ رائحتَه الكريهة.
قال المؤلف رحمه الله (ولِسِقطٍ ميتٍ غَسْلٌ وكَفَنٌ ودفنٌ ولا يصلَّى عليهِما.)
الشرح أن هذه الأمور لا تجب للميت إِلا إذا كان الميتُ مسلمًا قد وُلِد حيًّا، بأن صرخ أو اختلج أي تحرك اختلاجًا اختياريًّا بعد انفصاله عن البطن فهذا يجب له الأمور الأربعة غسله وتكفينه والصلاة عليه ودفنه، فيجب غسل الغريق ولا يُكْتَفَى بغرقه1 وكذلك قاتلُ نفس مسلمة وقاتلُ نفسه، فإن لم يظهر منه أمارة الحياة كالاختلاج الاختياريّ والصياح فلا تجب الصلاةُ عليه لكن يجب غَسله وتكفينه ودفنه، هذا إن ظهر فيه خِلقةُ ءادميّ وأَمَّا إن لم تظهر فيه خلقةُ ءادميّ نُدِبَ لفُّه بخرقة ودفنه ولا يجبان
وقول المؤلف "عليهما" الضمير فيه يعود إلى الذميّ والسقط أي لا يصلى على السقط ولا على الذميّ الميت.
قال المؤلف رحمه الله (ومَنْ ماتَ في قتالِ الكفّارِ بسببِهِ كُفِّنَ في ثيابِهِ فإِنْ لَمْ تكفِهِ زِيدَ عليْهَا ودُفِنَ ولا يغسَّلُ وَلا يُصلَّى عليهِ.)
الشرح الشهيد لا يجوز غسله ولا الصلاةُ عليه وهو من مات مسلمًا لو كان أنثى أو عبدًا مسلمًا مملوكًا أو صبيًّا في قتال الكفّار ولو كان كافرًا واحدًا أو مرتدًّا بسبب القتال، فالمسلم الذي كان موته بسبب القتال ولو رَمَحَته دابته فقتلته أو قتله مسلمٌ خطأً في حال القتال أو عاد سلاحه إليه فقتله أو سقط من دابته فمات فله هذا الحكم،
أَمَّا من مات بسلاح الكافر ولم يكن هو مقاتلاً فإنه يغسّل ويُصلَّى عليه كسائر الشهداء الذين لَم يكن سبب موتهم قتالَ الكفّار كالمبطون أي الذي مات بمرض بطنه كالإِسهال والقولَنج وهو مرضٌ يحبس الريح والغائط فإنهم يُغسّلون ويُصلَّى عليهم.
ويُسنُّ أن يُكفَّن الشهيد في ثيابه المُلطَّخة بالدم، ولو نـزعت منه ثم كُفِّن بغيرها كان جائزًا، فإن كانت ثيابُه التي هي ملطخةٌ بالدم لا تكفيه زيد عليها إلى ثلاث2 وإِنَّما تُرك غسل الشهيد والصلاة عليه لأنَّ الله تبارك وتعالى طهَّره بالشهادة3 وتولاه برحمته فأغناه عن دعاء المصلِّين، ولا يُسأل الشهيد في قبره ولذلك لا يلقن بل تصعد روحه إلى الجنة فيعيش فيها إلى أن يُبعث أهل القبور من قبورهم فترد روحه إلى جسمه ردًّا تامًّا فيخرج من قبره ثم يتبوَّأُ منـزله في الجنة بجسده وروحه ولا يأكل الترابُ جسده لأنَّ أثر الحياة متصلٌ به كالشمس تكون بعيدةً عن الأرض ويتصل أَثَرُها بالأرض.
قال المؤلف رحمه الله (وأقلُّ الغُسل إزالةُ النجاسةِ وتعميمُ جميعِ بشرِهِ وشعرِهِ وإنْ كَثُفَ مرةً بالماءِ المطهِّرِ)
الشرح أن الواجب في غسل الميت تعميم جسده شعره وبشره بالماء المطهر مرة واحدة وما زاد على الغسلة الواحدة فهو سنة والأفضل تثليث غسله. والماء المطهِّر هو الذي لم يتنجس ولا صار مستعملاً ولا تغيَّر بمخالطٍ طاهر تغيرًا كثيرًا. ولا يجب لهذا الغسل نيةٌ بل تُسنُّ ولذلك لو غسَله كافرٌ أجزأ4 ويُسنُ أن يغضَ الغاسل بصرَهُ عن غير عورته وأما عن عورته فواجب أن يغض بصرَهُ. ويَغسلُ عورته بخرقةٍ ونحوها مما يمنع المسّ وجوبًا إن احتاج للدَّلك.
والأَولى بغسل الذكر الذكور فلو غسلته زوجته جازَ لكنَّ الذَّكر يُقدَّم عليها وكذلك لو غسَل الزوج زوجته5.
والأولى بالمرأة النساء فإن لم يحضرها إلا أجنبيٌّ وجب أن تُيمَّم أي بحائل وكذلك الرَّجلُ إذا لم يحضره إِلا النساء الأجنبيات وجب أن يُيَمَّم6 فإذا خُشِيَ على الميّت أن يتهرى جسمُهُ إن غُسِلَ لكونه احترق أو لكونه مسمومًا سقط غسله وييمم عندئذ.
قال المؤلف رحمه الله (وأقلُّ الكفن ساترُ جميعِ البدنِ وثلاثُ لفائفَ لمَنْ تركَ تركةً زائدةً علَى دَيْنِهِ ولمْ يوصِ بتركِهَا)
الشرح أقلّ الكفن أي أقل واجبٍ في تكفين الميت ما يستر جميع بدنه، لكن يُستثنى رأس محرمٍ بحج أو عمرة مات قبل التَّحلُّل من الإِحرام فإنه يَحْرُمُ ستر رأسه بل يُترك مكشوفًا7 حتى يُبعث يوم القيامة بصفته التي مات عليها لأنَّ من مات محرمًا بحج أو عمرة يحشر من قبره يوم القيامة بهيئة الإِحرام ملبّيًا أي قائِلاً لبَّيك اللهمَّ لبيك، وكذلك وجهُ المرأة المحرمة أي أن المرأة إذا ماتت في إحرام الحج أو العمرة قبل أن تتحلَّل من الإِحرام يحرم أن يغطَّى وجهها بالكفن بل يترك مكشوفًا *** وتكون تلك الثياب من الثياب التي تحلُّ له حيًّا وتليق به8 ، ولا يجب تكفينه بالجديد بل يكفي اللبيس وهو الثوب الذي استعمل.
والتكفين بالثلاث واجبٌ لمن يكفَّن من ماله ولا دَين عليه مستغرِقٌ بأن ترك تركةً زائدةً على دينه أو لم يكن عليه دينٌ أصلاً ولو لم يملك سوى هذه الثلاثة. قال بعض الفقهاء هذا إن لم يكن أوصى بترك التكفين بالثلاث أما إن كان أوصى بأن يتركوا تكفينه بالثلاث فلا تجب وإنما الواجب له حينئذ ساتر البدن9.
قال المؤلف رحمه الله (وأقلُّ الصَّلاةِ عَلَيْهِ أن ينويَ فِعلَ الصّلاةِ عَلَيْهِ والفرضَ ويُعَيِّنَ ويقولَ الله أكبرُ وهو قائمٌ إِنْ قَدَرَ ثم يقرأَ الفاتحةَ)
الشرح صلاةُ الجنازة لها أقلُّ ولها أكمل فالأقل هو ما يتأدَّى به الفرضُ الذي فرضه الله للمسلم إذا ماتَ على المسلمين، فأقلُّ صلاةِ الجنازة أي القدرُ الضروريُّ الذي لا بدّ منه بحيث إذا تُرك كان الناس الذين علموا بذلك ءاثمين يحصل بالنيّة مع التكبير فيكبِّر المصلِّي أي يقول الله أكبر وينوي في قلبه أن يُصلِّي صلاة الجنازة على هذا الميت10 إن كان حاضرًا وبالتعيينِ أي تعيين أنها صلاة جنازة وهو فرضٌ لأنَّ نيّة مطلق الصلاة من دون أن ينوي أنها صلاة الجنازة لا تكفي.
ويُشْترط لصحةِ هذه الصلاة القيامُ أي لا بُدَّ من ذلك إن قدر.
ومن لوازم صلاة الجنازة قراءة الفاتحة11 كما أنّها ركنٌ في الصلوات المكتوبات، ويشترط لصحة قراءتها في الجنازة ما يشترط لصحة قراءتها في غيرها من إخراج كل حرف من مخرجه وغير ذلك.
تنبيه. لا يشترط أن تكون قراءة الفاتحة عقب التحريمة لكنَّ الأفضل أن تُقرأ الفاتحة بعد تكبيرة التحرُّم ويجوز تأخيرها لما بعدها12، ولو أخَّرها إلى ما بعد التكبيرة الرابعة جاز.
قال المؤلف رحمه الله (ثم يقولَ الله أكبر ثم يقولَ اللهمَّ صلِّ على محمد)
الشرح تجب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد التكبيرة الثانية ولا يجوز تقديمها ولا تأخيرها13. وأقلّ الصلاة على النَّبيّ في صلاة الجنازة اللهمَّ صلِّ على محمد.
قال المؤلف رحمه الله (ثم يقولَ الله أكبر اللهمَّ اغفر له وارحمه)
الشرح الواجبُ أن يكبِّر التكبيرة الثالثة ويدعوَ بعدها14 للميّت بخصوصه15 بأمر أخرويّ 16ولو بأقلِّ ما يَطْلَقُ عليه اسم الدعاء17. وليس الدعاء بالمغفرة خاصًّا بالبالغ بل يكون للميت الطفل والأكمل الدعاء المأثور18.
قال المؤلف رحمه الله (ثم يقول الله أكبر السلام عليكم)
الشرح يجب بعد الدعاء أن يُكبِّرَ تكبيرًا رابعًا والسلامُ بعده كسلام الصلاة وأمَّا الأكمل فهو أن يعود إلى الدُّعاء ولو أطال في ذلك19.
قال المؤلف رحمه الله (ولا بُدَّ فيها مِنْ شروطِ الصلاةِ وترك المبطلات)
الشرح صلاة الجنازة يُشترط فيها شروطُ الصلاة الواجبةُ من استقبال القبلة والطهارة عن الحدثين وعن النجاسة التي لا يُعفى عنها وغيرِ ذلك من الشروط، ولا بُدَّ فيها أيضًا من تجنُّب المبطلات للصلاة فما أبطل الصلاة أبطلها.
ويُندب فعل المندوبات فيها كما يندب في الصلوات الخمس كرفع اليدين عند التكبيرات والتعوذِ قبل القراءة لكن لا يُسنُّ فيها الافتتاحُ ولا قراءةُ السورة20 بل ينتقل من تكبيرة التحرم إلى الاستعاذة ثم الفاتحة.
قال المؤلف رحمه الله (وأقلُّ الدفن حفرةٌ تكتمُ رائحتهُ وتحرسُهُ من السِّباعِ ويُسنُّ أن يُعَمَّق قَدْرَ قامةٍ وبسطةٍ ويوسَّعَ ويجبُ توجيهُهُ إلى القِبلةِ. ولا يجوز الدَّفن في الفِسْقِيَّة.)
الشرح الدفن الذي هو فرضٌ على الكفاية حفرةٌ تكتم رائحته بعد طمِّه من أن تظهر وتحرسه من السِّباع أن تنبُشه وتأكله21 ، وإن لم يمنعه إِلا البناءُ أو الصندوق وجب ذلك. هذا أقلُّ الدَّفن أما أكمله فهو أن يكون القبر واسعًا يسع من ينـزله ومُعينَه وأن يكون قدر قامة وبسطة22 وهي أربعة أذرع ونصفٌ بذراع اليد ولو للطفل. ويُسنُّ أن يُلحد له لحدٌ إن كانت الأرض صُلْبةً، وأن يُشقَّ له شَقٌّ في الرِّخوة أي اللينة.
ويحرم الدفنُ في الفساقيِّ، والفساقيُّ هي جمعُ فسقيَّة والفسقيّةُ هي بناءٌ تجمع فيه الجنائز وقد يبنون فيها طيقانًا ويوضع كل ميِّتٍ في طاقٍ من هذه الطيقان فلو أوصى بذلك لم يجز تنفيذ وصيَّته. وإِنَّما حرم الدَّفن في الفساقيِّ لأن فيه إدخالَ ميتٍ على ءاخر قبل بِلاه ولأنها لا تمنعُ الرائحة فهي إهانةٌ للميت23.
وذكر المؤلِّف أنّه يجب توجيهه إلى القِبلة يعني أن من فرائض الجنازة التي تتبع الدَّفن التوجيهَ إلى القبلة24 وذلك بأن يُضْجَعَ على جنبه الأيمن أو الأيسر لكنَّ إضجاعه على الأيسر خِلافُ السُّنة فهو مكروه.
ويُسن أن يُقال بعد إتمام الدَّفن"يا عبد الله ابنَ أمةِ الله ثلاثَ مرات اذكر العهد الذي خرجت عليه من الدنيا شهادةَ أن لا إله إلا الله وأنّ محمدًا رسولُ الله وأنك رضيت بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيًا وبالقرءان إمامًا" فإنّ منكرًا ونكيرًا يقول أحدهما لصاحبه انطلق بنا ما يُقعدنا عند رجل لُقِّن حجته اﻫ رواه الطبراني25 وحسنه الحافظ ابن حجر26. وأما للأنثى فيقال يا أمة الله ابنة أمة الله. والتلقين يسن في حق البالغ ولو كان شهيدًا أي غير شهيد المعركة.
تنبيه. من الهيئات المُزرية بالميت التي لا تجوز أن يُكَبَّ الميت على وجهه عند الغَسل فذلك حرامٌ، وكذلك ختانه إن كان غير مختون، ومن ذلك حمله على الأكتاف من غير نعشٍ ونحوِهِ إِلا أنَّه يجوز حمل الطفل الصَّغير على اليد عند الذَّهاب به إلى الدَّفن.
-------------